منذ اندلاع الحرب في السودان، برزت الحاجة إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي والعسكري بما يضمن استقرار الدولة ومنع تكرار الأخطاء التي أدت إلى النزاعات الحالية. ومع ذلك، فإن السياسات المتبعة حاليًا تشير إلى إعادة إنتاج نفس النهج الذي أدى إلى صعود مليشيا الدعم السريع، لكن هذه المرة تحت لافتات وأسماء مختلفة.
نهج التمكين وإعادة تدوير الأزمة
كان تمكين مليشيا الدعم السريع يقوم على منحها نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا داخل إقليم دارفور، حيث استحوذت على قطاعات اقتصادية مهمة، مثل تجارة الذهب والموارد الطبيعية، مما منحها استقلالية مالية مكّنتها لاحقًا من التمرد على الدولة.
اليوم، يجري اتباع النهج ذاته مع الحركات المسلحة، لكن في أقاليم أخرى، حيث يتم تمكينها اقتصاديًا وعسكريًا على حساب:
- الإقليم الأوسط (خاصة مشروع الجزيرة)، وهو أكبر قاعدة زراعية في السودان.
- الإقليم الشمالي، حيث توجد مناجم الذهب الرئيسية في السودان.
هذه السياسات لا تقوم على رؤية عادلة لإدارة الموارد، بل تعتمد على ترضيات سياسية خطيرة، هي ذاتها التي أدت في الماضي إلى تكوين مليشيات مسلحة خارج سيطرة الدولة، وهي الوصفة ذاتها التي قادت السودان إلى الحرب الحالية.
خطورة التمكين خارج مؤسسات الدولة
تروج القيادة الحالية لفكرة أن إشراك الحركات المسلحة في إدارة الأقاليم هو دليل على الوحدة الوطنية، لكن الواقع يُظهر أن هذه الحركات تُعامل ككيانات مستقلة ذات امتيازات اقتصادية وسياسية خاصة، وهو ما يخلق إشكالات خطيرة، منها:
- إضعاف مؤسسات الدولة لصالح كيانات مسلحة لا تخضع للرقابة أو المحاسبة.
- توسيع الفجوة بين المواطنين وهذه الحركات، حيث يشعر السكان بأن مواردهم تُستنزف لصالح جماعات مسلحة لم تسهم في تنمية مناطقهم.
- تهيئة بيئة لظهور مليشيات جديدة، إذ أن أي مجموعة تمتلك السلاح يمكنها أن تطالب بحصتها من "الكعكة"، مما يكرس ثقافة الفوضى.
تكرار الأخطاء السابقة: دعم سريع جديد بوجوه مختلفة؟
إن التجربة السابقة مع مليشيا الدعم السريع يجب أن تكون درسًا كافيًا للحكومة السودانية، حيث:
- بدأت كقوة محلية تابعة للحكومة، ثم توسعت اقتصاديًا، وأصبحت جيشًا موازياً.
- سيطرت على قطاعات اقتصادية حساسة مثل تعدين الذهب، مما منحها نفوذًا ماليًا هائلًا.
- انتهت إلى التمرد على الدولة، مما أدى إلى الحرب الحالية.
اليوم، يتم منح الحركات المسلحة نفس الامتيازات الاقتصادية والسياسية، مما يجعلنا أمام سيناريو مشابه قد يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الأزمة في غضون سنوات قليلة.
البديل المطلوب: عدالة الموارد لا المحاصصة
إذا أرادت الدولة تحقيق استقرار حقيقي، فإن الحل لا يكمن في منح امتيازات اقتصادية للحركات المسلحة، بل في:
1. توزيع الموارد على أسس عادلة
يجب أن يكون توزيع الثروات والموارد مبنيًا على أسس تنموية عادلة، بحيث:
- تستفيد جميع الأقاليم من التنمية والاستثمار، وليس فقط الجماعات المسلحة.
- يتم تطوير البنية التحتية والزراعة والصناعة بدلًا من تسليم الموارد لجماعات مسلحة.
2. بناء جيش وطني موحد
يجب أن يكون الجيش خارج الولاءات المناطقية والفصائلية، وأن يخضع بالكامل لسيطرة الدولة، حيث أن:
- الجيش الوطني هو الضامن الأساسي للاستقرار، وليس المليشيات والجماعات المسلحة.
- لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار عبر تقسيم القوات المسلحة إلى كيانات مستقلة لكل منها أجندتها الخاصة.
3. إنهاء سياسة الترضيات
يجب على الدولة التوقف عن استخدام الموارد كأداة لشراء الولاءات، والانتقال إلى نهج يقوم على:
- الحكم الرشيد والمؤسسات القوية.
- الشفافية والمساءلة في توزيع الثروات.
- تطوير مشاريع اقتصادية مستدامة بدلًا من منح الامتيازات لجماعات معينة.
خاتمة: السودان بحاجة إلى دولة مؤسسات، لا موازنات سياسية
إن إعادة إنتاج الأخطاء السابقة سيؤدي حتمًا إلى نتائج كارثية، وقد يدفع البلاد إلى دوامة جديدة من الصراعات المسلحة. ما لم تدرك القيادة أن نهج التمكين والترضيات هو سبب الأزمة وليس حلها، فإن السودان سيظل يعاني من تكرار نفس السيناريوهات التي أدت إلى الحروب والانقسامات.
المطلوب الآن هو بناء دولة مؤسسات قوية، وليس كيانات متنافسة تقسم البلاد وتنهك مواردها. الاستقرار الحقيقي لن يتحقق بمنح الامتيازات للمسلحين، بل عبر سياسات عادلة وشاملة تضمن التنمية والأمن لكل المواطنين، بعيدًا عن المحاصصة والترضيات السياسية.